لغز نهب كنوز العراق
يومان أسودان نهب خلالهما تاريخ يعود إلى أكثر من عشرة آلاف سنة
لغز نهب كنوز العراق
نحن اليوم
نستلهم المشهد.. نسترجع الصور.. نعيد رسم علامات الاستفهام بحجمها الطبيعي. لماذا نهبت آثار العراق ؟ لماذا دمرت المواقع الأثرية؟ لماذا أحرقت الوثائق الوطنية؟ ما الذي حدث؟ وأين ذهب إرث الرافدين؟ أسئلة رغم مرور خمس سنوات على طرحها لا تزال بلا إجابات. لكنها تبحث في كل الاتجاهات عن المسؤول عن جريمة القرن.. محو هوية العراق الثقافية وسرقة تاريخ أولى الحضارات التي عرفها العالم.
فشل أم خطأ متعمد؟
يومان من عمر الزمان نهب فيهما نتاج قرون طويلة من الحضارات القديمة. ففي يومي 10 و11 أبريل 2003 أفرغ المتحف الوطني العراقي من محتوياته وتركت أرضه مفروشة بالزجاج المهشم والأوراق المحروقة والتماثيل المحطمة. ففي الشهور الأولى من عام 2003 كانت طبول الحرب تدق خارج أسوار بغداد. وأخذت الدقات تتعالى يوماً بعد يوم.
عندها بدأت الهيئات الثقافية الدولية تستشعر الخطر وتحذر من المساس بالإرث الثقافي للعراق وتحمل قوات التحالف واجب رعاية المتاحف والمكتبات والمواقع الأثرية. وبدأ الباحثون الدوليون يقدمون التماسات عاجلة للحيلولة دون تدمير أنفس كنوز الأرض. في تلك الفترة عكف أمناء المتاحف الوطنية على العمل ليل نهار لنقل المحتويات الثمينة والخفيفة إلى أقبية سرية ولم يتركوا سوى التماثيل الضخمة والقطع المقلدة والآثار التي يصعب نقلها أو تخبئتها. وفي التاسع من ابريل 2003 سقطت بغداد. وتوجهت دبابات التحالف لحماية آبار النفط والوزارات الحساسة وتركت المواقع الثقافية والأثرية بلا حراسة. والنتيجة نهبت الكنوز والآثار وسجلت خسائر لا تقدر بثمن. وما حدث للمتحف الوطني العراقي في بغداد حدث لمتاحف بابل والموصل وأور والكوت والبصرة والعمارة وفي الوقت ذاته تقريباً. ولم تكن المتاحف بأهم من اثني عشر ألف موقع أثري هام منتشرة على مدى آلاف الأميال. فلقد كانت الجرافات لا تتوقف عن حفر المواقع الأثرية ونبش ما في قلبها من كنوز ثمينة ورافق هذه العملية تدمير قطع عديدة حافظ التاريخ عليها عبر آلاف السنين.
ولقد سلط الملحق الثقافي لصحيفة ''صنداي تايمز'' البريطانية في عددها الصادر 13 أبريل 2008 الضوء على محنة الآثار العراقية التي فقدت خلال الغزو الأميركي للعراق. مبيناً أن مسروقات المتاحف قدرت بستة عشر ألف قطعة تنتمي إلى أولى الحضارات التي عرفتها البشرية السومرية والبابلية والآشورية. وأنها تجسد تطور الكتابة والحساب والعجلة والزراعة وتتضمن تعويذات وقطع عاج ورؤوساً منحوتة وأواني وخواتم وآلات موسيقية عمرها أربعة آلاف عام. ويعتقد البروفيسور ''جون كيرتيس'' مدير قسم الشرق الأدنى في المتحف البريطاني أن ما سرق من المتاحف العراقية سيظهر في أسواق المزاد العالمية وعند هواة جمع الآثار وفي الأسواق السوداء في العالم آجلاً أم عاجلاً.
أما التحدي الأكبر الذي تواجهه الهيئة العامة للآثار والتراث العراقية هو محاولة تحديد القطع التي نهبت من المواقع الأثرية والتي تقدر بالآلاف والتي لا توجد هناك إحصائيات أو صور أو سجلات أو معلومات بشأنها.
محاولات يائسة
وكلما أثيرت قضية آثار العراق المنهوبة يتبادر إلى الأذهان هذا سؤال: هل كانت الهجمات على المواقع الأثرية منظمة؟ أم أنها نتجت عن حالة الفوضى التي فرضها الاحتلال؟. لا أحد يستطيع أن يجزم بالإجابة. فلقد توحدت عمليات النهب واختلفت النوايا. وثبت أن هناك عراقيين دخلوا إلى المتاحف لمنع اللصوص من النهب فلم يقدروا لكونهم مسلحين. وهناك من أخذوا قطعاً أثرية وحموها في منازلهم ثم أعادوها. ويؤكد د.دوني جورج مدير متحف بغداد السابق أن بعض القطع الأثرية النفيسة أعادها عراقيون شرفاء كانوا قد احتفظوا بها في ديارهم لحمايتها. وهو ما نتج عنه استعادة المتحف لسبعة آلاف قطعة أثرية بحالة جيدة من أصل ستة عشر ألف قطعة. منها تمثال لنبوخذ نصر، والثور البرونزي السومري، وزهرية الوركاء المقدسة التي يعود تاريخها إلى 3200 قبل الميلاد والتي تعتبر إحدى أهم المقتنيات الأثرية في العالم لتصويرها الحياة الإنسانية. وتمثال برونزي من الفترة الأكادية عثر عليه في شمال العراق يعود إلى 2300 عام قبل الميلاد. وإناء الوركاء الأسطواني وهو أحد أهم القطع في تاريخ الفن البشري والذي يحمل نقوشاً بارزة من الفترة السومرية وكان يستخدم في جمع النذور. بالإضافة إلى وجه سيدة الوركاء والتي تعود إلى 3200 سنة قبل الميلاد. وكان أول رجل يتقدم بتسليم آثار مسروقة هو عازف كمان عراقي. فلما أجريت معه مقابلة تلفزيونية بدأت عشرات القطع الأثرية تتوافد على المتحف.
ورغم ذلك تشير كثير من الأدلة إلى أن المتاحف الوطنية لم يسرقها الغوغاء بل نفذتها مافيا عالمية دخلت مع القوات الأميركية خصيصاً لهذا الغرض. وأن هناك عصابات إجرامية على درجة عالية من الحرفية والتنظيم ساهمت في النهب وتعرف بالضبط عما تبحث وكيف تهرب ولمن تبيع. فقد أكد أمناء المتحف الوطني أن تدمير الملفات واختفاء أقراص الكمبيوتر واستخدام معدات خاصة لقطع الزجاج والتعرف على مداخل الأقبية السرية واختفاء القطع الأصلية وترك المزيفة كلها أدلة على أن عمليات السرقة كانت منظمة وبدقة. وأن هناك مجموعة دخلت إلى القاعات والمخازن في متاحف العراق شمالاً وجنوباً في التوقيت نفسه واستخدمت الأسلوب ذاته. وأن لديهم معلومات دقيقة ودراية جيدة بالقيمة الفنية والتاريخية للآثار لأنهم مروا مرور الكرام على النسخ المقلدة.
وبناء على خطة تنفذها هيئة الآثار العراقية لتعقب الآثار العراقية المسروقة بالتنسيق مع دول الجوار وبعض الدول العربية والأجنبية أعيدت 4 آلاف قطعة. وتؤكد هيئات عالمية تعنى بالآثار أن هناك ألف قطعة في الولايات المتحدة، وما بين 600 إلى 700 قطعة في الأردن، وهناك 500 قطعة في فرنسا، ونحو 250 قطعة في سويسرا. كما نجحت منظمة اليونسكو وشخصيات أجنبية مهتمة بالآثار العراقية في إعادة بعض الآثار التي تم عرضها في الخارج.
مسؤولية من؟
هل فشلت قوات التحالف في الحفاظ على كنوز العراق أم أنها تعمدت محو هويتها الثقافية؟. سؤال يجب أن يتحول إلى تحقيق في أكبر جريمة ثقافية يشهدها القرن. فمثل هذه القضايا لا تقيد ضد مجهول. وإن كانت أصابع الاتهام تشير إلى قوات التحالف فلا زال الجدل دائراً في الأوساط الثقافية حول إهمال قوات الاحتلال وعدم تعمدها محو هوية العراق الثقافية. وفي الجلسة التي عقدها مركز السياسة الثقافية في جامعة شيكاغو الأميركية منتصف شهر أبريل الجاري تحت عنوان ''آثار تحت الحصار'' حمل علماء التاريخ والآثار والأكاديميون المسؤولية كاملة لوزارة الدفاع الأميركية ''البنتاجون'' لعدم إشراك منظمات فنية عالمية في التخطيط للحرب.
وأعادوا التذكير بأن المادة التاسعة من البروتوكول الثاني لاتفاقية لاهاي الخاصة تنص على حماية الممتلكات الثقافية حال نشوب نزاع مسلح. وأن الدول التي تسيطر على المناطق المحتلة تتكفل بمنع تصدير أو إزالة أو نقل أية ممتلكات ثقافية ومنع محاولات تدمير أي دليل ثقافي أو تاريخي أو علمي. وكون الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا لم توقّعا على هذه الاتفاقية لا يعفيهما من المسؤولية.
ويميل عالم الآثار البريطاني د.''جون كيرتيس'' مدير دائرة الشرق الأوسط القديم في المتحف البريطاني إلى القول بأنه أياً كان المسؤول فمن الصعب جدا إصلاح الضرر. وقد عبر عن أساه لما حل بآثار العراق قائلا: ''لقد كان متوقعاً أن يكون ثمن الإطاحة بنظام صدام حسين باهظاً. لكن قلة فقط هم من توقعوا حجم الخسائر الإنسانية والحضارية والثقافية التي لا تقدر بثمن''.
كما نبه ''كيرتيس'' وهو من أشد المهتمين بآثار العراق إلى مخاطر أخرى تتعرض لها المواقع الأثرية العراقية بعيداً عن مأساة النهب والتهريب. وهي تحويل الجيش الأميركي بعض المواقع الأثرية إلى ثكنات عسكرية. مثل موقع ''بيت النبي إبراهيم'' بمدينة ''أور'' والذي أدى تحرك وسائل النقل الحربية الثقيلة إلى دك أرضه بما تحتها من آثار، بالإضافة إلى أن تواجد قوات الاحتلال جعل الموقع هدفاً لهجمات المقاومة التي كثيرا ما تخطئ صواريخها فتسقط على الموقع الأثري.
أما موقع النمرود الأثري في شمال العراق فقد تعرض لأضرار جسيمة. وخلال صيف عام 2004 كانت هناك ضجة عارمة في الأوساط الثقافية العالمية من جراء تحويل المواقع الأثرية العراقية إلى مراكز عسكرية. خاصة أن الجيش الأميركي عزل المواقع الأثرية عن أية رقابة عراقية ولا يسمح لعلماء الآثار بزيارتها. وكان معسكر بابل سبباً عظيماً لهذه الضجة. فبابل عاصمة اثنين من أشهر ملوك العراق هما حامورابي ونبوخذ نصر قد تحولت إلى ثكنة عسكرية ضخمة تضم ألفي جندي. تطلب إيواؤهم حفر مساحات كبيرة من الأرض بما تحمله من بقايا كنوز تعود للملك نبوخذ نصر. المؤدية إلى المعسكر عبدت بحجارة تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد والتي تهشمت بفعل حركة الآليات الثقيلة فوقها.